عين جالوت الخالدة
إنكسار
المغول
المبحث الأول: إحتلال المغول لبلاد
الشام والجزيرة:
أولاً: صمود ميا فارقين: انتهى
التتار من غارات الاستطلاع في الجزيرة، ومن جمع المعلومات عن أرضها وشعبها وملوكها
وكانوا قد فرغوا من أمر بغداد،فوجّهوا جيوشهم بثقلها صوب الجزيرة، وعلى رأسهم
القائد العام للعمليات في المنطقة هولاكو خان، لم يضيع التتار الوقت في عام 656هـ/
1258م بعد سقوط بغداد، توجه هولاكو مباشرة إلى الجزيرة، وكان هدفه دينسمر ونصيبين،
ومن ثم حرّان، وكلّف ابنه يشموط بقيادة فرقة أخرى من جيش التتار والسير بإتجاه
ميّافارقين وكلّف معه القائدين إيلكا نويان وسونتاي نويان، ووجّه فرقة أخرى بقيادة
الصالح ابن صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ إلى آمد[1].
1 ـ آمد بمواجهة التتار:في
عام 655هـ / 1257م كان الملك الكامل ناصر الدين محمد بن المظفر شهاب الدين صاحب
ميّافارقين قد عاد من زيارة منكوقاآن التتار الأعظم، بعد أن قدم له فروض الطاعة،
فعلم أن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل يكاتب أهل آمد لتسليمه المدينة، فطلب نجدة
الملك السعيد صاحب ماردين، وأرسل عسكره، فطردوا عسكر سلاجقة الروم واحتلوا آمد[2]،
وفي عام 557هـ وبينما كان التتار يحاصرون ميّافارقين، وصل هولاكو إلى آمد واستدعى
سيف الدين بن محلي نائب الكامل فيها، فخرج إليه،وطلب منهم هولاكو تسليم المدينة،
فلم يمانع، وقام هولاكو بتسليمها إلى ابني كيخسرو سلطان سلاجقة الروم المتوفي،
وهما رُكن الدين وعز الدين ولما اقتسما البلاد أصبحت آمد مع رُكن الدين قليبج
أرسلان، وفيها نوّابه مع نوّاب التتار، ثم انتقلت بعد مقتله إلى ابنه غياث الدين[3].
2 ـ تحدي ميّافارقين للتتار:وبعد
عودة الملك الكامل من خان التتار إلى ميّافارقين أعلن العصيان على التتار، وحبس
نوّابهم وخرج بإتجاه دمشق لمقابلة الملك الناصر يوسف وقال له: إن هؤلاء التتار لا
تفيد معهم مُدارة، ولا تنجح فيهم خدمة، وليس لهم غرض إلا في ذهاب الأنفس،
والاستيلاء على البلاد، ومولانا السلطان قد بذل لهم الاموال من سنة أثنتين وأربعين
,إلى اليوم (656هـ)، فما الذي أثرت فيهم من خلوص المودة؟ فلا يغتر مولانا بكلام
بدر الدين ـ صاحب الموصل ، ولا بكلام رسولك ـ الزين الحافظي، فإنهما جعلاك خبزاً
ومعيشة وأحذرك كل الحذر من رسولك فإنه لا يناصحك ولا يختارك عليهم، وغرضه إخراج
ملكك من يدك وأنا فقد علمت أنني مقتول سواء أكنت لهم أو عليهم، فاخترت بأن أكون
باذلاً مهجتي في سبيل الله، وما الانتظار وقد نزلوا على بغداد، والمصلحة خروج
السلطان ـ الناصر ـ بعساكره لإنجاد المسلمين وأنا بين يديه، فإن أدركناه عليها
فيها، ونعمت وكانت لنا عند الخليفة اليد البيضاء وإن لم ندركه أخذنا بثأره[4].
3 ـ مشروع الكامل لمواجهة التتار:كانت
لدى الكامل رؤية واضحة لموضوع الصراع مع التتار، وقد تجلت في المشروع الذي قدمه
للملك الناصر الايوبي عند زيارته له في دمشق، وهو مشروع هجومي وليس دفاعي:
أ ـ أدرك الناصر أن نزول هولاكو على
بغداد لحصارها هو الهدف الأكبر للتتار وإنهم بعده سيتوجهون إلى الجزيرة والشام.
ب ـ تأكد الكامل أن سقوط بغداد سيكون
نهاية للدولة الإسلامية بكل رموزها ومعانيها وممالكها وإماراتها.
ج ـ لكل ذلك كان مشروعه يبدأ من بغداد،
فقد طلب من الناصر يوسف التوجه بجيشه وسيكون الكامل معه إلى بغداد لنجدتها، فمعركة
بغداد هي التي ستحسم الصراع مع بغداد.
د ـ كان يبدو من كلام الكامل ثقته ـ إلى
حد ـ ما بالنصر، فإن لم يمكن نجدة الخليفة وإنقاذه فالثأر له.
س ـ قام الكامل بتحذير الناصر من تضليل
بدر الدين لؤلؤ المتعامل مع التتار، ومن خيانة رسول الناصر إلى التتار وزيره الزين
الحافظي ((فقد جعلوك خبزاً ومعيشة))[5].
لقد كان الكامل واحداً من الملوك القلّة
الذين تجرّؤوا على مجرّد التفكير بالمقاومة وربما كان ذلك لتقديره الصحيح للموقف
فقد قتل التتار الملوك المستسلمين والخاضعين والمقاومين على السوء، وهذا ما أثبتت
الأيام صحته[6].
4 ـ ردّ الناصر على مشروع الكامل:ما
إن علم الملك الناصر بتوجه الكامل المتمرد على التتار نحوه حتى جمع أرباب دولته
واستشارهم، فكان رأي الأغلبية منهم استقبال الكامل، والاستماع إلى ما جاء من أجله،
بينما عارض ذلك الزين الحافظي والصالح نور الدين بن المجاهد والملك الاشرف بن
المنصور صاحب حمص، فإنهم كانوا متفقين مع التتار وقال الزين الحافظي للناصر: متى
بلغ هولاكو خروجك إليه جعله سبباً إلى قصد بلادك والمصلحة اعتذارك إليه، وردّه،
فلم يمكن الناصر إلا موافقة الجم الغفير، فخرج إليه، وتلقّاه وأنزله بدار السعادة[7]،
إن ما نستنتجه من ما دار في مجلس الملك الناصر هو أن أعوان التتار يشكلون حزباً له
وجوده حتى في حاشية الملوك، ولكنّهم قلة، وأن معظم الناس كان مشاعرها ضد التتار،
وتميل للمقاومة مهما كانت النتائج، لقد استمع الملك الناصر ولم يوافق على مشروع
الكامل، فبعد أن عرض الكامل مشروعه للمسير إلى بغداد أيّد جميع الحاضرين في المجلس
هذا المشروع، ما عدا حزب التتار، فقد كانت لهم جرأة في المعارضة، أما الملك
الناصر، فكان ردّه متخاذلاً أكثر من تخاذله على أرض، إذ عرض على الكامل أن يرسل من
طرفه رسولاً ليشفع له عند هولاكو، فأجابه الكامل قائلاً: جئتك في أمر ديني
تُعوّضني عنه بأمر دنيوي؟ فقال: متى نزلوا عليك ارسلتُ لك عسكراً. فأجاب الكامل:
هذا لا ينفعني حينئذ، إذ لا وصول له إلي[8]،
لقد مثل الكامل إرادة الجهاد والمقاومة مهما كلف الثمن، واختار الشهادة بعزة إن لم
يكن النصر،أما الملك الناصر، فقد عبّر عن جبنه وتخاذله وحيرته وتردده وانعدام
قدرته على اتخاذ قرار ناجح في لحظة تحتاج إلى قرار، وبقي الكامل في دمشق حتى سمع
سقوط بغداد، فرجع إلى بلاده عن طريق حلب، حيث التقى به ابن شداد وقال له: أصبت في
قصدك الملك الناصر، وما أصبت في رجوعك، هلا قصدت مصر؟ فيرد الكامل: لقد خفت على
قلب الملك الناصر، فيشير عليه ابن شداد أن يخرج حريمه من ميّافارقين، ويستخلف
نوّاباً، ويعود للملك الناصر، لعل تنهض عزيمته. ويتضح لنا من هذا الحديث بين
الكامل وابن شداد أن فكرة قصد مصر كأمل أخير للوقوف في وجه التتار قد خطرت على بال
الكامل، لكنّه لم ينفذها حتى لا يغضب الناصر في وقت هو بأمس الحاجة إليه، كما
نتبين أن ابن شداد كان مطلعاً على الوضع العام، فقد عرف أن وضع الجزيرة ميؤوس منه
فنصح الكامل بإخراج حريمه من ميّافارقين، وعرف أن الناصر متخاذل خائف يحتاج
لاستنهاض عزيمته[9].
5 ـ سقوط ميّافارقين واستشهاد الكامل:بعد
أن تمّ للمغول الاستيلاء على اربل، أمر هولاكو الأمراء يشموت وايلكا نويان وسونتاي
بالتوجه إلى مدينة ميّفارقين،ولما بلغوا حدودها أرسلوا رسولاً من قبلهم إلى الملك
الكامل الايوبي صاحبها يدعونه إلى الخضوع، والطاعة لهم ويتوعدونه بالهلاك والدمار
في حالة عصيانه لهم، إلا أن الملك الكامل قابل ذلك التهديد بالرفض الشديد، وذلك
لما كان يعرفه عن المغول من الخيانة ونكث العهود حيث رد عليهم قائلاً:إنني لن
أنخدع بكلامهم المعسول، ولن أخشى جيش المغول وسأضرب بالسيف ما دمت حيا[10]،
ونتيجة لهذا الرد الحاسم من الملك الكامل، إتفق الأمراء المغول على مهاجمة
ميافارقين، وإنتزاعها بالقوة من يد حكامها وفي الوقت نفسه أخذ الملك الكامل يعد
نفسه وقواته لمواجهة ذلك الخطر، حيث عمد إلى تطييـب خواطر سكان مدينته ورفع روحهم
المعنوية، بإعطائهم وعداً ببذل كل ما يملك من الذهب والفضة والغلال الموجودة
بالمخازن في سبيل الدفاع عن مدينتهم، فاتحد معه سكان المدينة جميعاً وأعلنوا له
أنهم رهن إشارته، وعلى إستعداد للجهاد ضد العدوان المغولي الذي بات يهدد مدينتهم
بالخراب والدمار، واستطاع مسلمو ميافارقين أن يصمدوا واستبسلوا في القتال[11]،
وصمدت المدينة الباسلة، وظهرت فيها مقاومة ضارية، وقام الأمير الكامل محمد في
شجاعة نادرة يشجع شعبه على الثبات والجهاد، وكان من المفروض في هذا الحصار البشع
الذي ضرب على ميافارقين أن يأتيها المدد من الإمارات الإسلامية الملاصقة لها، ولكن
هذا لم يحدث لم تتسرب إليها أي أسلحة ولا أطعمه ولا أدوية، لقد احترم الأمراء
المسلمون النظام الدولي الجديد الذي فرضته القوة الأولى في العالم ـ التتار ـ على
إخوانهم وأخواتهم وأبناهم وبناتهم وآبائهم وأمهاتهم المسلمين والواقع أنني أتعجب
من رد فعل الشعوب، أين كانت الشعوب؟
ـ لم يكن الشعوب تملك حريتها وقرارها بل
كانت خاضعة لإرادة حكامها.
ـ كانت هناك عمليات ((غسيل مخ)) مستمرة
لكل شعوب المنطقة فلا شك أن الحكام ووزراءهم وعلماءهم كانوا يقنعون الناس بحسن
سياستهم وبحكمة إدارتهم.
ـ من لم يقنعه العلماء والخطب والحجج
فإقناعه يكون بالسيف، لقد تعودت الشعوب على القهر والبطش والظلم من الولاة[12].
أقبل المغول على فرض حصار شديد على
مدينة ميافارقين، اشتركت فيه فرق أرمينية ومسيحية شرقية وقابله المسلمون داخل
المدينة بصمود هائل عجز أمامه المغول على اقتحامها مدة طويلة، وكان في جيش الملك
الكامل فارسان بارعان أذهلا قادة المغول ودوخاهم وأوقعاهم في الدهشة والحيرة، إذ
كان لبسالتهما وأحكامهما الرماية سبباً في إنزال أفدح الخسائر في الجيش المغولي،
حتى اضطر هولاكو الذي أدرك عجز قواته عن اقتحام المدينة إلى إرسال مدد جديد بقيادة
الأمير أرقتو، وانضم هذا القائد الجديد بجموعه إلى الجهة التي فيها جيش الأمير
المغولي إيلكيا نويان، ونظراً لطول الحصار الذي فرضه المغول على المدينة، نفذت
الأرزاق من داخلها وعم القحط وانتشر الوباء وتهدمت الأسوار من شدة ضرب المنجنيقات،
حتى هلك أكثر سكان المدينة[13]،
فقد وقعت المجاعة فيها بسبب الحصار الطويل وفي عام 658هـ 1260م سقط آخر معقل
للمقاومة في الجزيرة ودخل التَّتار ميَّافارقين"فوجدوا جميع سُكَّنها موتى،
ما عدا سبعين شخصاً نصف أحياء، وقبضوا على الكامل الأيوبي؛ فعنَّفه هولاكو وأمر
بتقطيعه[14]،
وأخذوا يقطعون لحمه قطعاً صغيرة ويدفعون بها إلى فمه حتى مات، ثم قطعوا رأسه
وحملوه على رمح وطافوا به في البلاد وذلك في سنة 657هـ/1259م[15]،
حتى وصل دمشق، فعلَّقوه على باب الفراديس، حتى أنزله الأهالي ودفنوه وقتل المغول
كل من وجدوه في ميَّافارقين وهدموها، وهذا يدل على شدة حنق المغول من الملك
الكامل، ومن مقاومته لهم وربما كان أيسر ما كلفتهم إياه هو الخسائر البشرية
والمادية فهي ـ بلا شك ـ ساهمت في تحطيم سُمعتهم الحربية المرعبة لأن مقاومة
الكامل أصبحت رمزاً لإرادة المقاومة ضد التَّتار، وأصبح الكامل بموته قدوة ومثالاً
للتضحية والشهادة[16].
وكذلك مدينة ميافارقين التي تقع الآن في شرق تركيا إلى الغرب من
بحيرة"وان" فقد كانت جيوش الكامل الأيوبي تسيطر على شرق تركيا، بالإضافة
إلى منطقة الجزيرة، وهي المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات من جهة الشمال، أي
أنه يسيطر على الشمال الغربي من العراق وعلى الشمال الشرقي من سوريا[17].
[1]
العلاقات الدولية في عصر الحروب الصليبية (2 ـ 47).
[2]
المصدر نفسه (2 ـ 48).
[3]
المصدر نفسه (2 ـ 48).
[4]
العلاقات الدولية (2 ـ 50).
[5]
الاغلاق الخطيرة لابن رشد، نقلاً عن العلاقات الدولية (2 ـ 51).
[6]
العلاقات الدولية في عصر الحروب الصليبية (2 ـ 51).
[7]
الاغلاق الخطيرة لابن رشد نقلاً عن العلاقات الدولية (2 ـ 52).
[8]
الاغلاق الخطيرة (2 ـ 52).
[9]
جهاد المماليك صـ 53.
[10]
جامع التواريخ نقلاً عن جهاد المماليك صـ 75.
[11]
جهاد المماليك صـ76.
[12]
قصة التتار صـ178.
[13]
جهاد المماليك صـ76.
[14]
المصدر نفسه صـ76.
[15]
المصدر نفسه صـ76.
[16]
العلاقات الدولية (2/54).
[17]
جامع التواريخ نقلاً عن جهاد المماليك صـ77.
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 17:01 من طرف Admin
» مشاهير اعتنقوا الاسلام تعرفوا عليهم Celebrities who converted to Islam recognized them
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:48 من طرف Admin
» رسام وشوم في اليابان يزلزل العالم ويعلن إسلامه بعد أن اكتشف سرا خطيرا في ورقة صغيرة
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:47 من طرف Admin
» من الالحاد الى الاسلام
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:45 من طرف Admin
» غرداية
الإثنين 1 نوفمبر 2021 - 14:36 من طرف Admin
» مشاهير دخلوا الاسلام حديثا 13 من مشاهير العالم اعتنقوا الإسلام عام 2020
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 19:09 من طرف Admin
» مشاهير اعتنقوا الاسلام تعرفوا عليهم Celebrities who converted to Islam recognized them
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 18:52 من طرف Admin
» الطريقة الصحيحة للمراجعة لشهادة التعليم المتوسط || الطريق إلى معدل 18 BEM DZ
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:51 من طرف Admin
» طرق المذاكرة للاطفال
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:48 من طرف Admin
» طرق المذاكرة الصحيحة مع الأبناء - 6 طرق ذكية للمذاكرة الصحيحة مع الأطفال
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:45 من طرف Admin
» فيديو نادر: الجزائر قبل 90 سنة
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:34 من طرف Admin
» حقائق حول مقتل محمد شعباني أصغر عقيد في الجزائر-30 يوم تحقيق
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:32 من طرف Admin
» المؤرخ محمد لمين بلغيث يكشف أمور خطيرة عن الحراك و غديري و توفيق
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:26 من طرف Admin
» الجريمة السياسية.. اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز
الأربعاء 20 مايو 2020 - 17:46 من طرف Admin
» ذكرى مؤتمر الصومام و جدلية السياسي و العسكري
الأربعاء 20 مايو 2020 - 17:39 من طرف Admin