سقوط طليطلة
والمواجهة في
عصر المرابطين
د.نجدة خماش
في سنة 478 هـ، وبعد ما يقارب القرون الأربعة من فتح طارق
بن زياد لطليطلة عاصمة القوط حكام شبه الجزيرة الأيبرية، سقطت طليطلة في يد الفونسو
السادس ملك ليون وقشتالة. ولم يكن سقوطها عملاً بسيطاً تم إثر معركة، وإنما كان
عملاً مخططاً على مدى طويل نسبياً، ولقد تضافرت أسباب وعوامل مباشرة وغير مباشرة
ساعدت على سقوطها، منها تعاظم القوى الإسبانية وانتعاشها مستغلة اشتعال نار الحرب
الأهلية في الأندلس خلال أواخر عصر الإمارة( ثورة ابن حفصون، ثورة المولدين في
الثغور) فحصنت مواقعها في الشمال ثم تجاوزتها باتجاه الجنوب حتى وصلت إلى ضفة نهر
دويرة الشمالية، حيث عمدت إلى بناء الحصون، وأضحت القوى الإسبانية مؤلفة من أربع
دويلات، دولة ليون في الزاوية الشمالية الغربية، وقشتالة في الوسط الشمالي، وبرزت
إمارة البشكنس(دولة نافارة) في السفوح الغربية لجبال البيرنيه، وفي شرقي هذه
الجبال، وعلى شاطئ المتوسط حيث مدينة برشلونة، ظلت دويلة الثغر الإسباني التي
ارتبطت منذ نشأتها بالكارولنجيين سادة غاليا، وعلى الرغم من انقسام القوى
الإسبانية إلى دويلات وتناحرها فيما بينها فقد بقيت تلك القوى عاملاً خطيراً
مهدداً لدولة الخلافة الأموية، مما اضطرها لتجريد الحملات ضدها، وكان من نتائج هذه
الحملات التي وُجهت إلى الشمال أن هُدّمت تلك المراكز الحصينة التي أقامتها القوى
الإسبانية في ضفة نهر دويرة اليمنى، كما نزل العرب المسلمون بعضها الآخر، وأدت هذه
الحملات إلى بسط سيادة الخلفاء على هذه الدويلات التي أعلن ملوكها الولاء للخلفاء،
وعبّروا عنه بدفع المال، أو تقديم الحصون، أو بكليهما معاً، ولكن على الرغم من ذلك
لم يُخضع الخلفاء المنطقة لحكمهم المباشر، وأبقوا للدويلات شخصيتها وحكامها
الموالين لهم الذين لم يصل ولاؤهم بالطبع إلى حد التبعية والخضوع التام المباشر
للخلفاء، كما هي حال جماعات المستعربين المقيمين على أرض الأندلس. ويرى توينبي أن
القوة العربية وصلت الذروة في عمل الخلفاء ضد الإسبان الشماليين، ومع ذلك لم تنهِ
السيادة الإسبانية نهائياً من الشمال مما جعل هذه الأعمال-خاصة في عهد الحاجب
المنصور- بما أثارته من تحدٍ ورد فعل عليه نقطة الانعطاف في الصدام بين الإسلام
والمسيحية خلال العصور الوسطى، وبالتالي البداية نحو المد الصليبي الذي سيمتد من
نهر دويرة إلى نهر الأردن وما وراءه :toynbe( aj.astudy
of history voi. V111 p. 349/351) كما أن
أحداث عصر الخلافة التي أدّت إلى قوة الأندلس وعظمتها وازدهارها حملت في ثناياها
عوامل انهيار الخلافة وتمزق المجتمع الأندلسي ووحدته السياسية، فإذا أنهى العصر
الصراع الاجتماعي بين عرب ومولّدين ومستعربين، إلا أن الثمن الذي دفعه الخلفاء من
أجل تحقيق ذلك كان زوال امتيازات الجند، وهي الطبقة التي كانت إحدى دعائم الحكم
الأموي منذ قيامه، وعوّض عنهم الخلفاء بعبيد صقالبة ومرتزقة من قبائل مغربية كوّنوا
بمجموعهم طبقة غريبة تراكم الحقد عليها بقدر ما كان عددها يتزايد، وامتيازاتها
تكثر وتكبر حتى وصل إلى ذروته في العصر العامري، فقد استكثر الحاجب محمد بن أبي
عامر المنصور من العبيد الصقالبة كي يضمن سيطرته، واستدعى جماعات من قبائل مغربية
شتى متعادية في أرضها، مما يضمن له عدم إمكانية اتفاقها ضده, وعمد ابنه عبد الملك
الملقب بالمظفر, والذي حكم من سنة 392-399هـ, إلى تقريب المحاربين المغاربة أكثر
من والده حتى كاد أن يَقصُر مجالسته على رجالهم, ولم يقتصر الاعتماد على هؤلاء
الأغراب على المجال العسكري فقط بل تعدّاه إلى المجال المدني, فعين الخلفاء رجالاً
من العبيد أو من الأحرار ذوي الأصول المتواضعة, وأبعدوا أسر موالي الأمويين التي
كانت ركيزة ثانية للدولة منذ نشأتها في أيام عبد الرحمن الداخل.
وأدى النشاط الاقتصادي, في عصر الخلافة, إلى انقسام طبقي بين
عِلية القوم الذين تراكمت ثرواتهم وتعاظمت مواردهم, وبين العامة، وبرزت التناقضات
جليةَ في قرطبة, فلما قرر عبد الرحمن شنجول ابن الحاجب المنصور الثاني من زوجته
ابنة ملك نفاره (سانشو) أن يجبر الخليفة هشام بن الحكم على التنازل عن العرش
انطلقت الشرارة التي أشعلت نار الثورة تحالف فيها عوام قرطبة وأحدُ الأمويين من أحفاد الناصر وهو محمد بن هشام بن عبد
الجبار، وأفلحت في تحطيم الاستبداد العامري, لكنها أدخلت الأندلس في دوامة الفتنة
التي انجلت بعد أكثر من عشرين عاماً
399-422هـ عن زوال الحكم الأموي ووحدة الأندلس وظهور ما يسمى بدول الطوائف, وكان
أهمها دولة بني جهور في قرطبة –وبنو عباد في اشبيلية- أما في منطقة الثغور مع الإسبان
فقد قامت ثلاث دول أسستها أسر أندلسية عريقة تعود أصولها سواء أكانت عربية أم بربرية
إلى زمن الفتح، منها دولة بني النون في الثغر الأوسط طليطلة، والتّجيبون، وبنو هود
في الثغر الأعلى سرقسطة، ودولة بني الأفطس في الثغر الأدنى بطليوس.
ولعلّ القاسم المشترك بين دول الطوائف التي مرّ ذكرها, أن
مؤسسيها سواء كانوا أفراداً أم جماعات كانوا أندلسيين. أما الجماعات العسكرية التي
دخلت الأندلس في عصر الخلافة وكانت مغربية أو صقلبية فقد أنشأت كل قوةٍ منها دولةً
أو دولاً في منطقة تجمعها أو المنطقة الأقرب من الأندلس لبلادها الأصلية, وهكذا قامت
للمغاربة دولة في غرناطة (الدولة الزيرية أو الصنهاجية), ودولة العامريين في شرق
الأندلس.ونقصد بها تلك الدويلات التي شادها الفتيان الصقالبة العامريين في شرق
الأندلس على طول المنطقة المطلة على المتوسط من طرطوشة حتى المريّة. وكان الصراعَ في
الغالب, الجوهر والقاعدة في علاقات ملوك الطوائف بعضِهم ببعض, وربما كان منبعُه
طبيعة سلطة كل منهم، إذ كانت سلطة غَلَبة ووضع يد على منطقة معينة ولم تكن منحة أو
تعييناً من سلطة عليا تحدد مداها وحدودها, وأضحى كل ملك يهاجم من حوله طمعاً في
الاستزادة من الأملاك أو درءاً لخطر ملك آخر يملك قاعدة قريبة من المراكز الحساسة
في دولته, ولم يلبث هؤلاء الملوك أن اعتبروا الصراع صراعاً على البقاء, ولم يتورعوا
عن استخدام أي وسيلة للخروج منه بنتيجة ملائمة –ولعلّ أهم هذه الوسائل خطراً
الاستعانة بملوك أو نبلاء الدويلات الإسبانية الذي مكّن هؤلاء من ابتزاز الجميع
أموالاً أول الأمر, وقواعدَ وحواضر في نهاية المطاف.
وقد اعتمد ملوك الطوائف لدعم سلطانهم على دعامة من الجند
المرتزقة والعبيد, وكان هؤلاء الجنود من عناصر متعددة يأتي في مقدمتها بنو برزال
من زِناته, وكان الاعتمادُ عليهم يكادُ يكون عاماً لدى كل الدويلات وخاصة في
الجنوب, وقد وصف ابنُ حيان دورهم بقوله: ...وقد حلّوا محل الملح في الطعام ببأسهم
الشديد، وقاموا مقام الفولاذ في الحديد فلا يقاتل الأعداء إلا بهم، ولا تعمر الأرض
إلا في جوارِهم، فطائفةٌ عند ابن الأفطس تقاوم أصحابها قبل ابن عباد، وطائفة عندنا
بقرطبة تحيّز أهلها عن الأضداد، فسبحان الذي أظهرهم ومكّن لهم إلى وقت وميعاد[1]، ووصلت شهرتهم في الحرب إلى
حد أن بني زيري الصنهاجيين ملوكَ غرناطة وأصحاب الثأر مع زِناتة عموماً وبني برزال
بوجه خاص في المغرب قبل الوصول إلى الأندلس استعانوا بهم أيضاً، كما يقول الأمير
عبد الله[2].
كما استُخدِم السودان من قبل الفتيان العامريين على رغم
أنهم جنود، ومن قبل الزبيريين أيضاً، وكانوا أوفياء لهؤلاء الزبيريين، فعندما هاجم
العبّاديون مالِقَة انفرد السودان بالدفاع عن قضية سيدهم الزيري، ولاذوا بالقصبة
عند سقوط المدينة حيث استمروا في المقاومة ريثما وصلت الإمدادات من سيدهم[3].
وكان بين هؤلاء الجند مرتزقة من الإسبان أو غيرِهم من
الأوربيين، وقد وصف ابن حيان جيش ابن ذي النون الموجه لاحتلال قرطبة بأنه كان يضم
الألوفَ المختلفة الألسن[4].وفي مكان آخر يضيف" ما
بين أجنادِه وإمدادِه ذوي ألسنةٍ شتى، وبطارقَ أعزة يُعرِب عنهم التراجمة.
أما الأندلسيون فقد بعُد عهدهم بالجندية والجيش منذ
إبعادهم التدريجي الذي بلغ ذُروته في عهد العامريين، ومع ذلك فقد كانوا يُحشدون في
وقت الخطر الشديد، وقد برز عجزهم واضحاً جلياً، وقُتِل الألوف منهم في الحروب التي
جَرَت بين ملوك الطوائف، أو بينهم وبين الإسبان، ومن أمثلة هذه الحالات ما قام به
ابن الأفطس بعد هزيمة ساحقة له أمام ابن عبّاد في صراعهما على مدينة يَابُرَة، إذ
جمع خصمه فلول جيشه المهزوم، واخرج معهم كل من قَدِر على ركوب دابّة، وحشَرَ من
رجال البوادي بعمله خلقاً كثيراً، ولكن الهزيمة حلّت بابن الأفطس مرة ثانية، وكانت
الضحايا منهم كثيرة، حتى أن راوية ثقة لابن حيان أفاده أن" بَطَلْيوس بقيت
مدة خالية الدكاكين والأسواق من استئصال القتل لأهلها[5].
أما أعداد هؤلاء الجند المعتمد عليهم فلا يمكن التعرفُ
عليها بدقة في غياب الإحصاءات لعددها في كل دولة، وللتطورات التي كانت تطرأ عليها،
وإنما يمكن التوصل لاستنتاجات عامة من خلال الأرقام التي يوردها مؤرخون ثقات، أو
رجال دولة لعدد جنود دولة ما، وذلك في معرض الحديث عن معركة ما.
يذكر الأميرُ عبدُ الله الزيري في معرض حديثه عن هجوم
تحالف من الصقالبة الأندلسيين ضد بني قومه الزيريين بعدما جمعوا كل قواتهم، فبلغت
عدتها أربعةَ آلاف وجابههم بنو زيرى بأقل من ألف[6] , ورغم ما قد يكون في
الأرقام من مبالغة نحو الإكثار من عدد الأعداء والتقليل من عدد أبناء القوم لتضخيم
حجم الانتصار، فإن النتيجة التي نتوصل إليها هي أن أكبر جيش جُمع في الأندلس أول
فترة قيام دول الطوائف لا يزيد عدده عن خمسة آلاف, ويظهر أن أعداد الجند كانت تقل
بمرور الزمن، خاصة لدى الدول الممزقة كدولة بني زيرى, فالأخوان عبد الله صاحب
غرناطة وافى الحشدَ الإسلامي قُبيل الزلاقة في 300فارس، وأخوه تميم من مالقة
بحوالي مائتين[7]،
وفي بعض الدول ذات الموارد الضعيفة كدولة بني جهور في قرطبة أضيف إلى قِلّة العدد وهي
200 جندي لدفع الخطر انهيار الهيكل التنظيمي، لدرجة أن رواتبَهم لم تكن مدفوعة ومؤنَهم
لم تكن محفوظة، كما يستفاد من روابة ابن حيان وهو الشاهد العيان لذلك من داخل
الدولة.
لذا يمكن القول أن كثيراً مما يسمى بجيوش ملوك الطوائف هي
أقرب إلى العصابات منها إلى جيوش منظمة, وربما كان الاستثناء الوحيد لذلك جند
العباسيين, الذين يرتقون إلى مرتبة الجيش، إذ ظهر فيهم الاختصاص فكان منهم مختصون
بأعمال الحصار وقد ظهر عملهم عند الاستيلاء على شِلْب 455هـ[8]، فقد دخلوها عنوة بعد هدم
سورها بالمجانيق من جهة ونقبه من جهة, كما كان للعبّاد بين أسطولُهم الحربي الذي
شارك في الأعمال الحربية مثل دخول الجزيرة الخضراء وتهديد مالقة, وفي أواخر أيام
دولتهم لَبّوا دعوة يوسف بن تاشفين لمساعدته في الاستيلاء على سبتة بقواتهم
البحرية, وقد وصف ابن بسام هذه السفينة بأسلوبه الأدبي قائلاً: أنشأ المعتمد سفينة
ضاهى بها مصانع الملوك القاهرين بَعُد العهد بمثلها شِدّة وسعة بطن وظهر, كأنما
بناها على الماء صرحاً مُمّرداً وأخذ بها على الريح ميثاقاً مؤكداً[9]. تجاه هذه التجزئة للسلطة في
الواقع الفعلي وانعدام أي رابط بين السلطات في عصر الطوائف نجد أن دول الشمال
الإسباني كانت تسير نحو التوحيد على مستويين, في المجال النظري, كان ملوك ليون
يعتبرون أنفسهم امتداداً للأسرة المالكة القوطية قبل الفتح العربي الإسلامي، وفي
مضمون هذا الاعتبار ما يشير إلى حقهم في حكم شبه الجزيرة الإيبرية كلها كما كان
ملوك القوط يحكمون, وإزاء تعدد الدويلات الإسبانية اتخذ مليك ليون لقب إمبراطور
وحتى باسيليوس سواء في وثائقه الرسمية أو لدى رعاياه أو لدى ملوك الدويلات
الإسباينة.
[1] -الذخيرة -ق2 م1 ص 12-13.
[2] -التبيان ص 62-63.
[3] -ابن عذارى ج3 ص 147.
[4] الذخيرة ق2 م1 ص 22-23،28.
[5] -الذخيرة ق1 م1 ص 362-363.
[6] -التبيان ص22
[7] -ابن الأبار-الحلة السيراء ج2 ص100
[8] -ابن عذاري ج3 ص 235-236*296-298
[9] -الذخيرة ق2 م2 ص 127.
والمواجهة في
عصر المرابطين
د.نجدة خماش
في سنة 478 هـ، وبعد ما يقارب القرون الأربعة من فتح طارق
بن زياد لطليطلة عاصمة القوط حكام شبه الجزيرة الأيبرية، سقطت طليطلة في يد الفونسو
السادس ملك ليون وقشتالة. ولم يكن سقوطها عملاً بسيطاً تم إثر معركة، وإنما كان
عملاً مخططاً على مدى طويل نسبياً، ولقد تضافرت أسباب وعوامل مباشرة وغير مباشرة
ساعدت على سقوطها، منها تعاظم القوى الإسبانية وانتعاشها مستغلة اشتعال نار الحرب
الأهلية في الأندلس خلال أواخر عصر الإمارة( ثورة ابن حفصون، ثورة المولدين في
الثغور) فحصنت مواقعها في الشمال ثم تجاوزتها باتجاه الجنوب حتى وصلت إلى ضفة نهر
دويرة الشمالية، حيث عمدت إلى بناء الحصون، وأضحت القوى الإسبانية مؤلفة من أربع
دويلات، دولة ليون في الزاوية الشمالية الغربية، وقشتالة في الوسط الشمالي، وبرزت
إمارة البشكنس(دولة نافارة) في السفوح الغربية لجبال البيرنيه، وفي شرقي هذه
الجبال، وعلى شاطئ المتوسط حيث مدينة برشلونة، ظلت دويلة الثغر الإسباني التي
ارتبطت منذ نشأتها بالكارولنجيين سادة غاليا، وعلى الرغم من انقسام القوى
الإسبانية إلى دويلات وتناحرها فيما بينها فقد بقيت تلك القوى عاملاً خطيراً
مهدداً لدولة الخلافة الأموية، مما اضطرها لتجريد الحملات ضدها، وكان من نتائج هذه
الحملات التي وُجهت إلى الشمال أن هُدّمت تلك المراكز الحصينة التي أقامتها القوى
الإسبانية في ضفة نهر دويرة اليمنى، كما نزل العرب المسلمون بعضها الآخر، وأدت هذه
الحملات إلى بسط سيادة الخلفاء على هذه الدويلات التي أعلن ملوكها الولاء للخلفاء،
وعبّروا عنه بدفع المال، أو تقديم الحصون، أو بكليهما معاً، ولكن على الرغم من ذلك
لم يُخضع الخلفاء المنطقة لحكمهم المباشر، وأبقوا للدويلات شخصيتها وحكامها
الموالين لهم الذين لم يصل ولاؤهم بالطبع إلى حد التبعية والخضوع التام المباشر
للخلفاء، كما هي حال جماعات المستعربين المقيمين على أرض الأندلس. ويرى توينبي أن
القوة العربية وصلت الذروة في عمل الخلفاء ضد الإسبان الشماليين، ومع ذلك لم تنهِ
السيادة الإسبانية نهائياً من الشمال مما جعل هذه الأعمال-خاصة في عهد الحاجب
المنصور- بما أثارته من تحدٍ ورد فعل عليه نقطة الانعطاف في الصدام بين الإسلام
والمسيحية خلال العصور الوسطى، وبالتالي البداية نحو المد الصليبي الذي سيمتد من
نهر دويرة إلى نهر الأردن وما وراءه :toynbe( aj.astudy
of history voi. V111 p. 349/351) كما أن
أحداث عصر الخلافة التي أدّت إلى قوة الأندلس وعظمتها وازدهارها حملت في ثناياها
عوامل انهيار الخلافة وتمزق المجتمع الأندلسي ووحدته السياسية، فإذا أنهى العصر
الصراع الاجتماعي بين عرب ومولّدين ومستعربين، إلا أن الثمن الذي دفعه الخلفاء من
أجل تحقيق ذلك كان زوال امتيازات الجند، وهي الطبقة التي كانت إحدى دعائم الحكم
الأموي منذ قيامه، وعوّض عنهم الخلفاء بعبيد صقالبة ومرتزقة من قبائل مغربية كوّنوا
بمجموعهم طبقة غريبة تراكم الحقد عليها بقدر ما كان عددها يتزايد، وامتيازاتها
تكثر وتكبر حتى وصل إلى ذروته في العصر العامري، فقد استكثر الحاجب محمد بن أبي
عامر المنصور من العبيد الصقالبة كي يضمن سيطرته، واستدعى جماعات من قبائل مغربية
شتى متعادية في أرضها، مما يضمن له عدم إمكانية اتفاقها ضده, وعمد ابنه عبد الملك
الملقب بالمظفر, والذي حكم من سنة 392-399هـ, إلى تقريب المحاربين المغاربة أكثر
من والده حتى كاد أن يَقصُر مجالسته على رجالهم, ولم يقتصر الاعتماد على هؤلاء
الأغراب على المجال العسكري فقط بل تعدّاه إلى المجال المدني, فعين الخلفاء رجالاً
من العبيد أو من الأحرار ذوي الأصول المتواضعة, وأبعدوا أسر موالي الأمويين التي
كانت ركيزة ثانية للدولة منذ نشأتها في أيام عبد الرحمن الداخل.
وأدى النشاط الاقتصادي, في عصر الخلافة, إلى انقسام طبقي بين
عِلية القوم الذين تراكمت ثرواتهم وتعاظمت مواردهم, وبين العامة، وبرزت التناقضات
جليةَ في قرطبة, فلما قرر عبد الرحمن شنجول ابن الحاجب المنصور الثاني من زوجته
ابنة ملك نفاره (سانشو) أن يجبر الخليفة هشام بن الحكم على التنازل عن العرش
انطلقت الشرارة التي أشعلت نار الثورة تحالف فيها عوام قرطبة وأحدُ الأمويين من أحفاد الناصر وهو محمد بن هشام بن عبد
الجبار، وأفلحت في تحطيم الاستبداد العامري, لكنها أدخلت الأندلس في دوامة الفتنة
التي انجلت بعد أكثر من عشرين عاماً
399-422هـ عن زوال الحكم الأموي ووحدة الأندلس وظهور ما يسمى بدول الطوائف, وكان
أهمها دولة بني جهور في قرطبة –وبنو عباد في اشبيلية- أما في منطقة الثغور مع الإسبان
فقد قامت ثلاث دول أسستها أسر أندلسية عريقة تعود أصولها سواء أكانت عربية أم بربرية
إلى زمن الفتح، منها دولة بني النون في الثغر الأوسط طليطلة، والتّجيبون، وبنو هود
في الثغر الأعلى سرقسطة، ودولة بني الأفطس في الثغر الأدنى بطليوس.
ولعلّ القاسم المشترك بين دول الطوائف التي مرّ ذكرها, أن
مؤسسيها سواء كانوا أفراداً أم جماعات كانوا أندلسيين. أما الجماعات العسكرية التي
دخلت الأندلس في عصر الخلافة وكانت مغربية أو صقلبية فقد أنشأت كل قوةٍ منها دولةً
أو دولاً في منطقة تجمعها أو المنطقة الأقرب من الأندلس لبلادها الأصلية, وهكذا قامت
للمغاربة دولة في غرناطة (الدولة الزيرية أو الصنهاجية), ودولة العامريين في شرق
الأندلس.ونقصد بها تلك الدويلات التي شادها الفتيان الصقالبة العامريين في شرق
الأندلس على طول المنطقة المطلة على المتوسط من طرطوشة حتى المريّة. وكان الصراعَ في
الغالب, الجوهر والقاعدة في علاقات ملوك الطوائف بعضِهم ببعض, وربما كان منبعُه
طبيعة سلطة كل منهم، إذ كانت سلطة غَلَبة ووضع يد على منطقة معينة ولم تكن منحة أو
تعييناً من سلطة عليا تحدد مداها وحدودها, وأضحى كل ملك يهاجم من حوله طمعاً في
الاستزادة من الأملاك أو درءاً لخطر ملك آخر يملك قاعدة قريبة من المراكز الحساسة
في دولته, ولم يلبث هؤلاء الملوك أن اعتبروا الصراع صراعاً على البقاء, ولم يتورعوا
عن استخدام أي وسيلة للخروج منه بنتيجة ملائمة –ولعلّ أهم هذه الوسائل خطراً
الاستعانة بملوك أو نبلاء الدويلات الإسبانية الذي مكّن هؤلاء من ابتزاز الجميع
أموالاً أول الأمر, وقواعدَ وحواضر في نهاية المطاف.
وقد اعتمد ملوك الطوائف لدعم سلطانهم على دعامة من الجند
المرتزقة والعبيد, وكان هؤلاء الجنود من عناصر متعددة يأتي في مقدمتها بنو برزال
من زِناته, وكان الاعتمادُ عليهم يكادُ يكون عاماً لدى كل الدويلات وخاصة في
الجنوب, وقد وصف ابنُ حيان دورهم بقوله: ...وقد حلّوا محل الملح في الطعام ببأسهم
الشديد، وقاموا مقام الفولاذ في الحديد فلا يقاتل الأعداء إلا بهم، ولا تعمر الأرض
إلا في جوارِهم، فطائفةٌ عند ابن الأفطس تقاوم أصحابها قبل ابن عباد، وطائفة عندنا
بقرطبة تحيّز أهلها عن الأضداد، فسبحان الذي أظهرهم ومكّن لهم إلى وقت وميعاد[1]، ووصلت شهرتهم في الحرب إلى
حد أن بني زيري الصنهاجيين ملوكَ غرناطة وأصحاب الثأر مع زِناتة عموماً وبني برزال
بوجه خاص في المغرب قبل الوصول إلى الأندلس استعانوا بهم أيضاً، كما يقول الأمير
عبد الله[2].
كما استُخدِم السودان من قبل الفتيان العامريين على رغم
أنهم جنود، ومن قبل الزبيريين أيضاً، وكانوا أوفياء لهؤلاء الزبيريين، فعندما هاجم
العبّاديون مالِقَة انفرد السودان بالدفاع عن قضية سيدهم الزيري، ولاذوا بالقصبة
عند سقوط المدينة حيث استمروا في المقاومة ريثما وصلت الإمدادات من سيدهم[3].
وكان بين هؤلاء الجند مرتزقة من الإسبان أو غيرِهم من
الأوربيين، وقد وصف ابن حيان جيش ابن ذي النون الموجه لاحتلال قرطبة بأنه كان يضم
الألوفَ المختلفة الألسن[4].وفي مكان آخر يضيف" ما
بين أجنادِه وإمدادِه ذوي ألسنةٍ شتى، وبطارقَ أعزة يُعرِب عنهم التراجمة.
أما الأندلسيون فقد بعُد عهدهم بالجندية والجيش منذ
إبعادهم التدريجي الذي بلغ ذُروته في عهد العامريين، ومع ذلك فقد كانوا يُحشدون في
وقت الخطر الشديد، وقد برز عجزهم واضحاً جلياً، وقُتِل الألوف منهم في الحروب التي
جَرَت بين ملوك الطوائف، أو بينهم وبين الإسبان، ومن أمثلة هذه الحالات ما قام به
ابن الأفطس بعد هزيمة ساحقة له أمام ابن عبّاد في صراعهما على مدينة يَابُرَة، إذ
جمع خصمه فلول جيشه المهزوم، واخرج معهم كل من قَدِر على ركوب دابّة، وحشَرَ من
رجال البوادي بعمله خلقاً كثيراً، ولكن الهزيمة حلّت بابن الأفطس مرة ثانية، وكانت
الضحايا منهم كثيرة، حتى أن راوية ثقة لابن حيان أفاده أن" بَطَلْيوس بقيت
مدة خالية الدكاكين والأسواق من استئصال القتل لأهلها[5].
أما أعداد هؤلاء الجند المعتمد عليهم فلا يمكن التعرفُ
عليها بدقة في غياب الإحصاءات لعددها في كل دولة، وللتطورات التي كانت تطرأ عليها،
وإنما يمكن التوصل لاستنتاجات عامة من خلال الأرقام التي يوردها مؤرخون ثقات، أو
رجال دولة لعدد جنود دولة ما، وذلك في معرض الحديث عن معركة ما.
يذكر الأميرُ عبدُ الله الزيري في معرض حديثه عن هجوم
تحالف من الصقالبة الأندلسيين ضد بني قومه الزيريين بعدما جمعوا كل قواتهم، فبلغت
عدتها أربعةَ آلاف وجابههم بنو زيرى بأقل من ألف[6] , ورغم ما قد يكون في
الأرقام من مبالغة نحو الإكثار من عدد الأعداء والتقليل من عدد أبناء القوم لتضخيم
حجم الانتصار، فإن النتيجة التي نتوصل إليها هي أن أكبر جيش جُمع في الأندلس أول
فترة قيام دول الطوائف لا يزيد عدده عن خمسة آلاف, ويظهر أن أعداد الجند كانت تقل
بمرور الزمن، خاصة لدى الدول الممزقة كدولة بني زيرى, فالأخوان عبد الله صاحب
غرناطة وافى الحشدَ الإسلامي قُبيل الزلاقة في 300فارس، وأخوه تميم من مالقة
بحوالي مائتين[7]،
وفي بعض الدول ذات الموارد الضعيفة كدولة بني جهور في قرطبة أضيف إلى قِلّة العدد وهي
200 جندي لدفع الخطر انهيار الهيكل التنظيمي، لدرجة أن رواتبَهم لم تكن مدفوعة ومؤنَهم
لم تكن محفوظة، كما يستفاد من روابة ابن حيان وهو الشاهد العيان لذلك من داخل
الدولة.
لذا يمكن القول أن كثيراً مما يسمى بجيوش ملوك الطوائف هي
أقرب إلى العصابات منها إلى جيوش منظمة, وربما كان الاستثناء الوحيد لذلك جند
العباسيين, الذين يرتقون إلى مرتبة الجيش، إذ ظهر فيهم الاختصاص فكان منهم مختصون
بأعمال الحصار وقد ظهر عملهم عند الاستيلاء على شِلْب 455هـ[8]، فقد دخلوها عنوة بعد هدم
سورها بالمجانيق من جهة ونقبه من جهة, كما كان للعبّاد بين أسطولُهم الحربي الذي
شارك في الأعمال الحربية مثل دخول الجزيرة الخضراء وتهديد مالقة, وفي أواخر أيام
دولتهم لَبّوا دعوة يوسف بن تاشفين لمساعدته في الاستيلاء على سبتة بقواتهم
البحرية, وقد وصف ابن بسام هذه السفينة بأسلوبه الأدبي قائلاً: أنشأ المعتمد سفينة
ضاهى بها مصانع الملوك القاهرين بَعُد العهد بمثلها شِدّة وسعة بطن وظهر, كأنما
بناها على الماء صرحاً مُمّرداً وأخذ بها على الريح ميثاقاً مؤكداً[9]. تجاه هذه التجزئة للسلطة في
الواقع الفعلي وانعدام أي رابط بين السلطات في عصر الطوائف نجد أن دول الشمال
الإسباني كانت تسير نحو التوحيد على مستويين, في المجال النظري, كان ملوك ليون
يعتبرون أنفسهم امتداداً للأسرة المالكة القوطية قبل الفتح العربي الإسلامي، وفي
مضمون هذا الاعتبار ما يشير إلى حقهم في حكم شبه الجزيرة الإيبرية كلها كما كان
ملوك القوط يحكمون, وإزاء تعدد الدويلات الإسبانية اتخذ مليك ليون لقب إمبراطور
وحتى باسيليوس سواء في وثائقه الرسمية أو لدى رعاياه أو لدى ملوك الدويلات
الإسباينة.
[1] -الذخيرة -ق2 م1 ص 12-13.
[2] -التبيان ص 62-63.
[3] -ابن عذارى ج3 ص 147.
[4] الذخيرة ق2 م1 ص 22-23،28.
[5] -الذخيرة ق1 م1 ص 362-363.
[6] -التبيان ص22
[7] -ابن الأبار-الحلة السيراء ج2 ص100
[8] -ابن عذاري ج3 ص 235-236*296-298
[9] -الذخيرة ق2 م2 ص 127.
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 17:01 من طرف Admin
» مشاهير اعتنقوا الاسلام تعرفوا عليهم Celebrities who converted to Islam recognized them
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:48 من طرف Admin
» رسام وشوم في اليابان يزلزل العالم ويعلن إسلامه بعد أن اكتشف سرا خطيرا في ورقة صغيرة
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:47 من طرف Admin
» من الالحاد الى الاسلام
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 16:45 من طرف Admin
» غرداية
الإثنين 1 نوفمبر 2021 - 14:36 من طرف Admin
» مشاهير دخلوا الاسلام حديثا 13 من مشاهير العالم اعتنقوا الإسلام عام 2020
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 19:09 من طرف Admin
» مشاهير اعتنقوا الاسلام تعرفوا عليهم Celebrities who converted to Islam recognized them
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 18:52 من طرف Admin
» الطريقة الصحيحة للمراجعة لشهادة التعليم المتوسط || الطريق إلى معدل 18 BEM DZ
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:51 من طرف Admin
» طرق المذاكرة للاطفال
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:48 من طرف Admin
» طرق المذاكرة الصحيحة مع الأبناء - 6 طرق ذكية للمذاكرة الصحيحة مع الأطفال
الثلاثاء 20 أبريل 2021 - 15:45 من طرف Admin
» فيديو نادر: الجزائر قبل 90 سنة
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:34 من طرف Admin
» حقائق حول مقتل محمد شعباني أصغر عقيد في الجزائر-30 يوم تحقيق
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:32 من طرف Admin
» المؤرخ محمد لمين بلغيث يكشف أمور خطيرة عن الحراك و غديري و توفيق
الأربعاء 20 مايو 2020 - 18:26 من طرف Admin
» الجريمة السياسية.. اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز
الأربعاء 20 مايو 2020 - 17:46 من طرف Admin
» ذكرى مؤتمر الصومام و جدلية السياسي و العسكري
الأربعاء 20 مايو 2020 - 17:39 من طرف Admin